تم تقسيم البحث الحالي إلى جزأين يناقش الأول الأدبيات المتعلقة بصناعة قرار شراء المستهلك للخدمات المصرفية، ويبحث الثاني في تحليل البيانات الميدانية ونماذج قرار تعامل المستهلك السوري بالخدمة المصرفية، وذلك بعد تأطير مشكلة البحث في نمذجة القرار الشرائي للمستهلك في الفصل الأول.
رغم التطور المتسارع لقطاع الخدمات المصرفية عالمياً والانتشار الواسع للشبكات الإلكترونية التي استطاعت المصارف أن تستثمرها بامتياز لتُصبح عاملاً تنافسياً مهماً في استراتيجياتها، إلا أن تسويقها في سورية ما زال يتلمس طريقه بعد الانفتاح الذي شهدته أسواقها في بداية القرن الحالي، إذ يعاني من جوانب قصور هامة يأتي في مقدمتها قصور شبكات الاتصالات وقواعد المعلومات المصرفية بالإضافة إلى قصور التشريعات وضعف الثقافة المصرفية، ...الخ، مما يعني وجود فجوات تسويقية كبيرة ويجب أن تدفع المصارف لاعتبارها فرصاً استراتيجية لتطوير خدماتها بما يلبي احتياجات المستهلك السوري بالاعتماد على مزيج فعّال من العناصر التسويقية وخصوصية هذا المستهلك وربطها بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
يعتبر قرار الشراء بطبيعته عملية ذهنية معقدة خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمنتجات المصرفية بسبب خصائصها وإدراك المستهلك لمخاطر تمس مباشرةً موارده المالية، حيث يُنظر إلى عملية صناعة القرار كمنظومة متكاملة تتطور باستمرار وينتج عنها فعل الشراء؛ وقد بيّنت الأدبيات أنه يمكن التنبؤ بشكلٍ مقبول بالسلوك الشرائي لمستهلك الخدمة المصرفية من خلال مجموعة من المؤثرات الخارجية والداخلية المتمثلة بمنظومة الأحكام والقيم الشخصية والمعرفية الخاصة به تؤدي إلى تعريف نموذج لتفضيلاته.
تتمثل المشكلة الجوهرية التي يعالجها البحث بإيجاد نماذج مقبولة لتابع المنفعة المتوقعة للمستهلك السوري للخدمة المصرفية وتقدير احتمال إقدامه على الشراء الفعلي، وهناك العديد من الطرق التي يمكن استخدامها لنمذجة التفضيلات، لكن الأكثر أهميةً تلك التي تُعبر عن المنفعة المتوقعة كتوابع رياضية تستطيع التنبؤ باحتمالات الشراء وفي مقدمتها تقنيات الانحدار اللوجستي ثنائي القيمة لتوابع المنفعة المتوقعة، حيث تستند هذه الأخيرة إلى تقدير مساهمة كل من العوامل المؤثرة كمتغيرات مستقلة في تابع المنفعة ثم إيجاد تابع احتمال الشراء؛ وقد تم اعتماد إجرائية واضحة تبدأ بتعريف دقيق لمتغيرات مسألة التعامل بالخدمة المصرفية، ثم كيفية إيجاد الصيغ التحليلية من عينة معبرة، وتُختَتم الإجرائية بتقدير مصداقية صيغ النماذج الناتجة بمقارنة نتائجها مع بيانات عينة مخصصة لذلك.
يبدأ الجزء العملي بتجميع البيانات لعينة ممثلة قدر الإمكان لمجتمع المستهلك السوري للخدمات المصرفية بأسلوب الاستبانة واختبارها بالأساليب المتعارف عليها، حيث تُظهر الإحصائيات الوصفية للعينة تمثيلاً مقبولاً للمجتمع من حيث توزع أفراد العينة حسب النوع والعمر وبشكلٍ أقل حسب الحالة التعليمية، كما تظهر النتائج أن حوالي 18% من أفراد العينة لا تتعامل أبداً بالخدمات المصرفية، وتصل هذه النسبة إلى حوالي 29% لناحية عدم التعامل بالخدمات المصرفية الإلكترونية؛ في حين، تُظهر الاختبارات الإحصائية وجود فروقات جوهرية في التعامل حسب نمط الخدمة فيما إذا كانت تقليدية أو إلكترونية، وتظهر اختبارات أخرى وجود فروقات جوهرية أيضاً حسب شرائح المتغيرات الديموغرافية المدروسة أي النوع والعمر والحالة التعليمية؛ وكذلك تُظهر المؤشرات الإحصائية الوصفية اهتماماً واضحاً للعوامل التكنولوجية والشخصية من قبل المستهلك السوري لدى اتخاذه قرار التعامل بالخدمة المصرفية، ولذلك تم دراستها بشكل معمق وإمكانية تجميعها وفق محاور جديدة باستخدام التحليل العاملي.
يأتي الفصل السادس ليعالج قضية تجميع العوامل التكنولوجية والعوامل الشخصية استناداً إلى الارتباطات المتواجدة فيما بينها وفقاً لإجابات أفراد العينة باستخدام تقنيات التحليل العاملي، حيث بينت نتائج التحليل ظهور محاور واضحة لكامل أفراد العينة، إذ برزت ثلاثة محاور تكنولوجية تشرح حوالي 76% من التباين الإجمالي للإجابات تمثلت بجاهزية الشبكات، والأمان والخصوصية، وسهولة استخدام الشبكات، وتشابهت هذه المحاور مع شريحة المتعاملين بالخدمة المصرفية. كما أظهر التحليل وجود سبعة محاور شخصية تشرح حوالي 61.5% من تباين الإجابات لكامل أفراد العينة كما يلي: الخبرات، الوعي، المعتقدات، الشخصية، المشاعر، الرغبة، وأخيراً الدوافع؛ واتفقت مع نتائج التحليل العاملي لشريحة المتعاملين بالخدمة المصرفية لناحية المحاور الناتجة وإن اختلفت جزئياً في ترتيبها. وتوفر المحاور الناتجة عن التحليل العاملي لكامل العينة المتغيرات المستقلة المرشحة لبناء الصيغ التحليلية لنماذج قرار التعامل بالخدمة المصرفية.
يمثل الفصل السابع معالجة تفصيلية للسؤال الجوهري للبحث المتعلق بإيجاد صيغ توابع احتمال تعامل المستهلك السوري بالخدمات المصرفية؛ فبعد تعريف متغيرات مسألة تقدير احتمال قرار التعامل بخدمة مصرفية بثلاثة متغيرات ديموغرافية وثلاثة متغيرات تكنولوجية وسبعة متغيرات شخصية، تم تقدير صيغ النماذج باستخدام تقنيات الانحدار اللوجستي والمنفعة المتوقعة فحصلنا على ثلاثة نماذج مقبولة استناداً إلى الاختبارات الخاصة بكل منها: يُمثل الأول احتمال التعامل بخدمة مصرفية بغض النظر عن نوعها، ويُمثل الثاني احتمال التعامل بالخدمة المصرفية التقليدية، في حين يمثل الثالث احتمال التعامل بالخدمة المصرفية الإلكترونية؛ برز بشكلٍ واضح تمثيل العوامل الديموغرافية في جميع النماذج، في حين كان تمثيل العوامل التكنولوجية يتراوح بين متغير أو متغيرين حسب النموذج، وكان ملفتاً ضعف تمثيل العوامل الشخصية في النماذج، وقد يكون التفسير الأكثر قبولاً ضعف ثقافة التعامل بالخدمات المصرفية وعدم وضوح "شخصية محددة" للمستهلك السوري تجاهها؛ كما بينت نتائج هذه النماذج وجود تباين واضح في احتمالات شراء المستهلك السوري حسب نمط الخدمة، فاحتمال التعامل بالخدمة المصرفية بشكلٍ عام أكبر من احتمال التعامل بالخدمة التقليدية وبدوره أكبر من احتمال التعامل بالخدمة الإلكترونية، وكذلك وجود تباين حسب الشرائح الديموغرافية لأنماط الخدمات المصرفية الثلاث: فاحتمال تعامل الذكور هو دوماً أكبر من احتمال تعامل الإناث، ويتناقص الاحتمال مع تقدم العمر، في حين يتزايد مع تزايد المستوى التعليمي؛ كما أظهرت الاختبارات الفعلية للنماذج مصداقية عالية للتنبؤ باحتمالات تعامل مستهلكين جدد ترواحت بين 70% و 80% من الحالات المختبرة.
ينتهي البحث بملخص إجمالي للنتائج التي توصل إليها البحث وبتقديم مجموعة من التوصيات، يأتي في مقدمة هذه التوصيات تمييز الخدمات المصرفية حسب أسلوب تقديمها وحسب شرائح مجتمع المستهلك السوري، واعتماد صيغ النماذج الناتجة كونها تتمتع بمصداقية عالية، مع إيلاء شريحة الإناث أهمية خاصة في الاستراتيجيات التسويقية، كذلك سعي المصارف لتعزيز الولاء لدى الشريحة الأقل عمراً باعتبار عمرها التعاملي طويل نسبياً، والعمل على صعيدين للشرائح التعليمية لناحية تعزيز الولاء للشريحة الأكثر تعليماً واستهداف الشرائح الأقل تعليماً، بالإضافة إلى ربط تصميم وتسويق الخدمات المصرفية بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ وأخيراً التوصية بمجموعة من الدراسات المستقبلية في مقدمتها فهم أسباب ضعف مساهمة العوامل الشخصية صراحةً في نماذج التعامل بالخدمة المصرفية، والتوسع بدراسات لأنواع محددة من الخدمات المصرفية أو لشرائح محددة من المستهلكين أو حسب مراحل القرار.
مخصصة لذلك.